فصل: قال في ملاك التأويل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)}
لمّا كوّن الله فيه الصّغار والحقارة بعد عزّة الملَكية وشرفها انقلبت مرامي همّته إلى التّعلق بالسّفاسف إذَا ما لم تكن إبل فمَعْزَى فسأل النَّظِرة بطول الحياة إلى يوم البعث، إذ كان يعلم قبل ذلك أنّه من الحوادث الباقية لأنّه من أهل العالم الباقي، فلمّا أهبط إلى العالم الأرضي ظنّ أنّه صائر إلى العدم فلذلك سأل النَظِرة إبقاء لما كان له من قبلُ، وإذ قد كان ذلك بتقدير الله تعالى وعلِمه، وبَدر من إبليس طلب النظِرة، قال الله تعالى: {إنك من المنظرين} أي إنّك من المخلوقات الباقية.
وقد أفاد التّأكيد بإنّ والإخبارُ بصيغة {من المنظرين} أنّ إنظاره أمر قد قضاه الله وقدّره من قبللِ سؤاله، أي تحقّق كونك من الفريق الذين أنظروا إلى يوم البعث، أي أنّ الله خلق خلقًا وقدّر بقاءهم إلى يوم البعث، فكشف لإبليس أنّه بعض من جملة المنظرين من قبل حدوث المعصية منه، وإن الله ليس بمغيّر ما قدّره له، فجواب الله تعالى لإبليس إخبار عن أمر تَحقّق، وليسَ إجابة لطلبة إبليس، لأنّه أهون على الله من أن يجيب له طلَبًا، وهذه هي النّكتة في العدول عن أن يكون الجواب: أنْظرْتك أو أجبت لك ممّا يدلّ على تكرمة باستجابة طلبه، ولكنّه أعلمه أنّ ما سأله أمر حَاصل فسؤاله تحصيل حاصل. اهـ.

.قال القاسمي:

{قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِين} [15]
{قَالَ} أي: الله له: {إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} أي: من المؤجلين إلى نفخة الصور الثانية.
قال ابن كثير: أجابه تعالى إلى ما سأل، لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع، ولا معقب لحكمه.
وقال الإمام أبو سعد المحسن بن كرامة الجشميّ اليماني في تفسيره التهذيب: ومتى قيل: ما وجه سؤاله مع أنه مطرود وملعون؟ فجوابنا علمه بإحسانه تعالى إلى خلقه من أطاع ومن عصى، فلم يمنعه من السؤال ما ارتكب من المعصية، ومتى قيل: هل خاطبه بهذا؟ قلنا: يحتمل ذاك، ويحتمل أنه أمر ملكًا فخاطبه به، ومتى قيل: هل يجوز إجابة دعاء الكافر؟ فيه خلاف.
الأول: قيل لا، لأنه إكرام وتعظيم- عن أبي علي- ولذلك يقال: فلان مستجاب الدعوة، وإنظاره لا على سبيل إجابة دعائه، لأنه ملعون ولأنه لم يسأل على وجه الخضوع.
الثاني: يجوز إجابة دعائه استصلاحاُ له، لأنه تفضل- عن أبي بكر أحمد بن علي- وليس بالوجه.
ومتى قيل: إذا أنظر هل يكون إغراء بالمعصية؟ قلنا: لا، لأنه لم يعلم ما الوقت المعلوم، فلا يكون إغراء مع تجويزه هجوم الموت عليه، ولأنه تعالى لما أعلمه أنه يدخله النار، ولعنه- علم أنه لا يختار الإيمان أبدًا.
ومتى قيل: ما فائدة إنظاره؟ قلنا: لطف له، لأنه يمكنه من استدراك أمره، وهل يضل به أحد؟ قال أبو علي، لا، لقوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} ولأنه لو ضل به، لكان بقاؤه مفسدة ن فكان الله تعالى لا ينظره.
فأما أبو هاشم فيجوِّز أن يضل به أحد، ويكون بمنزلة زيادة الشهوة، ويجوز أن يكون لطفًا من وجوه:
أحدها أن المكلف مع وسوسته إذا امتنع من القبيح، كان ثوابه أكثر، ولأنه تعالى عرفنا عداوته، والعاقل يجتهد في أن يغيظ عدوه ويغمه، وذلك إنما يكون بطاعة ربه، ومن أطاعه فمن قِبَل نفسه أتى، لا من قبل ربه. انتهى كلام الجشمي، وهو جارٍ على أصول المعتزلة. اهـ.

.قال الشعراوي:

{قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)}
ومعنى {أَنظِرْنِي} أمهلني أي لا تمتني بسرعة، ولا تجعل أجلي قريبًا، بدليل قوله سبحانه: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ المنظرين...}
فالإِنظار طلب الإِمهال، وعدم التعجيل بالموت، وقد طلبه إبليس لكي يشفي غليله من بني آدم وآدم؛ انه جاء له بالصَّغَار والذلة والطرد والهبوط، ولذلك أصر على أن يجتهد في أن يغري أولاد آدم ليكونوا عاصين أيضًا. وكأن إبليس في هذا الطلب أراد أن يُنْقذ من الموت وأن يبقى حيًّا إلى يوم البعث الذي يبعث فيه كل من مات. وكأنه يريد أن يقفز على قول الحق: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت...} [آل عمران: 185]
فأوضح الحق: أن تأجيل موتك هو إلى يوم الوقت المعلوم لنا وغير المعلوم لك؛ لأن الأجل لو عرف فقد يعصي من يعلمه مدة طويلة ثم يقوم بالعمل الصالح قبل ميعاد الأجل، ولكن الله أراد بإبهام زمان الموت أن يشيع زمانه في كل وقت. وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه: {إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} [الحجر: 38]
والوقت المعلوم هو النفخة الأولى: {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَاءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68]
وكأن إبليس كان يريد أن يفر من الموت ليصل إلى النفخة الثانية، لكن ربنا أوضح أنه باق إلى وقت معلوم، وآخر الوقت المعلوم هذا لابد أن يكون قبل النفخة الأولى. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {قال أنظرنى إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين} وفى سورة الحجر وسورة ص: {قال ربك فأنظرنى إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم} فورد في آيتى الحجر وص وزيادة الفاء في قوله: {فأنظرنى} وفى قوله: {فإنك} وزيادة قوله: {رب} ولم يرد ذلك في الأعراف، فيسأل عنه؟
وجواب ذلك والله أعلم: أن مناسبة ما تقدم كل واحدة من الآى الثلاث من الاسهاب والتأكيد أو الإيجاز ألا ترى أن مجموع الكلم الواقعة من لدن قوله في سورة الأعراف {ولقد خلقناكم} وهو ابتداء القصة إلى قوله: {قال أنظرنى إلى يوم يبعثون} بضع وأربعون كلمة، والوارد في الحجر من لدن قوله: {ولقد خلقنا الإنسان} إلى قوله: {قال رب فأنظرنى} بضع وسبعون كلمة وفى سورة ص من لدن قوله: {إذ قال ربك} إلى الآية بضع وستون كلمه، فقد وضح ما قصد في الأعراف من إيجاز الاخبار في القصة وما في السورتين بعد من الإطناب ثم إنه ورد في سورتى الحجر وص التأكيد بكل وأجمع في قوله: {كلهم أجمعون} ولم يرد ذلك في الأعراف فقصد ما قلناه وتناسب الإطناب والتأكيد ولاءم ما ورد من الزيادة في السورتين الأخيرتين ولم يكن ليناسب العكس والله أعلم بما أراد.
فإن قلت ما وجه ورود القصة الواحدة موجزة ومطولة أخرى؟
قلت: ليحصل من ذلك الاطلاع على علىّ البلاغة وجلالة النظم وعلى فصاحة في طرفى الإيجاز والإطناب، فإن الفصيح البليغ من البشر إن رام هذا لم يف في الطرفين بما يريده ووضح التفاوت في هذا بوجه.
فإن قلت فما وجه تقديم الموجز على المطول؟ قلت: شبه ذلك بالمجمل من الكلام والمفصل وإنما يريده التفصيل بعد الإجمال فهذا الجواب منزل على الترتيب الثابت، والله سبحانه أعلم بما أراد. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)}
أجاب دعاءَه في الحال ولكن كان ذلك مكرًا به لأنه مكَّنه من مخالفة أمره إلى يوم القيامة، فلم يَزِدْه بذلك التمكين إلا شِقوةً. ليعلمَ الكافةُ أنه ليس كل إجابة للدعاء نعمةً ولطفًا بل قد تكون بلاءً ومكرًا. اهـ.

.قال في روح البيان:

وإنما أنظره ابتلاء للعباد وتمييزًا بين المخلص ومتبع الهوى، وتعريضًا للثواب بمحالفته، وقيل: أنظره مكافأة له بعبادته التي مضت في السماء وعلى وجه الأرض؛ ليعلم أنه لا يضيع أجر العاملين وقيل أمهله وأبقاه إلى آخر الدهر استدراجًا له من حيث لا يعلم ليتحمل من الأوزار ما لا يتحمل غيره من الأشرار والكفار، فأنظره إلى يوم القرار ليحصل الاعتبار به لذوي الأبصار بأن أطول الأعمار في هذه الدار لرئيس الكفار وقائد زمرة الفجار.
واختلف العلماء هل كلم الله تعالى إبليس بغير واسطة أو لا؟ والصحيح أنّه كلّمه بواسطة ملك لأن كلام الباري لمن كلمه رحمة ورضى وتكرم وإجلال ألا ترى أن موسى عليه السلام فضل بذلك على الأنبياء ما عدا الخليل ومحمدًا صلى الله عليه وسلّم.
فإن قيل: أليس رسالته أيضًا تشريفًا وقد كانت لإبليس على غير وجه التشريف، كذلك كلامه يكون تشريفًا لغير إبليس ولا يكون تشريفًا لإبليس.
قيل: مجرد الإرسال ليس بتشريف وإنما يكون لإقامة الحجة بدلالة أن موسى عليه السلام أرسله الله إلى فرعون وهامان ولم يقصد إكرامهما وإعظامهما لعلمه بأنهما عدوان، وكان كلامه إياه تشريفًا له، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} (القصص: 62) أي: على لسان بعض ملائكته. اهـ.